الأربعاء، 4 أبريل 2018

للأبد؟

سُئِلت عديد من المرات عن كاتبي المفضل، ودائماً ما كنت أري التعجب وعدم الفهم يطل من نظرات من يسألني عندما أجيب 'أحمد خالد توفيق'، 
وكأن الكتاب المفضلين هي قائمة حِكر علي أسماء كنجيب محفوظ، يوسف إدريس، طه حسين، توفيق الحكيم، كافكا، همنجواي، تولستوي، .... إلخ من الأسماء التي تُتَرجَم أعمالهم وتُزَوّر لغلو ثمن نسخها الأصلية! أما كاتب محلي لم يفز بجوائز عالمية، ولم يُزَين اسمه الصفحات الأولي من الجرائد، ولم تكتب عنه الدوريات الأجنبية، فلا يصح أن يُصبح كاتب مفضل لأحد ما!

دعني أخبرك عن شئ بخصوص كاتبي المفضل. في معظم روايات كبار الكتاب المفضلين قد يموت البطل فتغلق انت الرواية وتتأمل قليلاً في قصته، ثم تنتقل للرواية التالية. لكن قُرّاء أحمد خالد توفيق رفضوا ان يموت بطلهم 'رفعت اسماعيل' ودشَنوا صفحة له علي الفيس بوك وموقعاً لتأبينه ثم محاولات لإعادة إحياءه وإبقاءه حياً علي الورق بمخيّلة القراء اللذين تشبعت خلايا أمخاخهم بشخصيته ومفرداته. إن فَعَل القراء هذا حباً في شخصية من شخصيات الكاتب، فما بالك بما قد يفعلوه وما يشعروا به الان لفقد المؤلف؟!

ربما لم يصل أحمد خالد توفيق لما وصل إليه مصاف نادي الكتاب المفضلين علي نطاق رأسي من العالمية وحصد الجوائز، لكنه امتلك تلك المساحة العربضة من شباب جيل قيل عنه أنه لا يحترم الكبار ولا يعجبه شئ ولا يستقر علي أمر ولا يتفقوا علي مبدأ!!
أحمد خالد توفيق كان ذوقاً خاص، كمحلات الطعام المحلية الصغيرة التي لا يعرف أحد كيف سحرت لُب الشعب واجتذبتهم ليقفوا طوابير امامها باختلاف طبقاتهم ومستوياتهم واتجاهاتهم، وناطحت شهرته المطاعم الكبيرة التي تُصِر يومياً من خلال الاعلانات باهظة التكاليف ان منتجاتهم هي الأفضل. 

إن كانت كتابات الاخرين هي اللحم في وجباتنا، فكتابات 'احمد خالد توفيق' كانت الحليب الذي كوّن بأهميته عظامنا والماء الذي لا يمكن ان نستغني عنه لو استغنينا عن اللحوم والفاكهة، كان هو الماء الذي يسلك حلوقنا مما حشر بها حشراً من حياة صعبة الهضم فيسهل هو هضمها. كان هو الماء الذي مهما اكلنا فلا غيره يروي العطش... كان هو ما شببنا عليه. كان طعاماً ذو مذاق مصري أصيل، لذا لم يعرفه الكثيرين ولم يحصد جوائز تشهره. ودعنا ندعي اننا فضلنا ان لا يشتهر، فنحن نحب نصيبنا منه ولا نريد ان نقتسمه مع أخرين. 

يقول الرجل ان بُعد الموهوبين عن دائرة الضوء يحرمهم ويحرم القراء من روائع إبداعاتهم. وكان يقصد بذلك ان من يعيشون خارج القاهرة يفقدوا نصف فرصهم ببعدهم عن دور النشر وتجمعات الأدباء وغيرها من ادوات تسليط الضوء. وعلي الرغم من هذا، ظل الرجل في صومعته بمدينة طنطا ورفض ان يضحي بسلامه النفسي ومقر راحته ليبقي علي إبداعه واستغني عن نعت اعماله بصفة ال commercial ورفض ان يلقي بنفسه في بحر التنافس حيث يسبح الكتاب في محيط اسماك قرش الموزعين، رفض ان يضحي بنعومة ورقة احساسه وأنامله امام الأيام لترغمه علي سن مخالب للدفاع عن نفسه وأفكاره. ضحي بكل هذا ليبقي علي سجيته... يكتب ما يحلوا له.... بشغف...!

لا أتخيل ان رجلاً ينخرط في صراعات المنتجين والموزعين والناشرين وصائدي المواهب يمكن ان يرحل وقد ترك لنا خلفه ميراثاً من روايات ومقالات وسلاسل قصص قصيرة بكل سطر فيها إبداع فريد وموهبة لا تسحرها أو تشتتها الشهرة أو تغريها عروض العالمية. 

هذا الرجل الذي كانت وصيته تعبر عن رسالته في الحياة
'اكتبوا علي قبري: جعل الشباب يقرأون' فوجد إخلاصاً من قراء لا تربطهم به أي صلة دم، لكن صلتهم به أوثق، فهي روحية مفعمة بالعرفان والوفاء، مبنية عن إختيار متبادل، كاتب تعهد أبناءاً لم ينجبهم، وجيل وهب عقله لكاتب لم يخذلهم فنياً ولا أدبياً. وكما التقط هو عقولاً ليربيها، إلتقطت قلوب اصحاب تلك العقول الوصية واستخرجتها من حشايا مؤلفاته وعلقتها ديناً في رقاب من أحبوه... وأوفوا الدين! 

صدقت يا أستاذ... جعلت الشباب يقرأون، وعلمتني أن أتذوق وأختار ما أقرأ، فبعدما أعتدت علي مذاق كلماتك لم أعد أستسيغ شيئاً بسهولة، علمتني كيف تكون السخرية، وكيف يكون الشغف بالكتابة....
فتحت لي أفاقاً لأعرف عن إدجار ألان بو، وكافكا، وهمنجواي، والميثولوچيا اليونانية، و كنت انت من فتح أذني لأسمع عن شئ يدعي 'كارمينا بورانا' وأذوب بين نغماتها...
فشكراً... ألف شكر...

أعلم انك تخاف الموت، لذا سأصلي أن تحمل روحك الرقيقة علي أيادي ملائكة لتذهب بك إلي حيث سنلقاك...
أعلم انك قلت مرة انك لست مستعداً لملاقاة الرب، لكني علي يقين أن إلهي الذي أعبده سيبتسم فرحاً بملاقاة روحك المتواضعة وسيصافح يدك الرقيقة التي لطالما نقشت كلماتها بحرص، وسيربت علي عقلك المتعب الذي كلّ من الإجتهاد ليبدع فيزيد الدنيا جمالاً ويعني بها كما يحب الرب...

أخيراً.... لم أجرؤ علي قراءة العدد الأخير من 'ما وراء الطبيعة' ف رفعت اسماعيل بالنسبة لي لا يمكن ان يموت....! ولن أقرأه ما حييت، فكيف لي إن كنت انت وفياً لنا بكتاباتك وبأبطالك عمراً بحاله، ننكر نحن الجميل ونقبل نهاية روايتك كأنها 'محض رواية'!! 
الرواية لم تنته يا أستاذ، سبقتنا انت فقط لنكمل فصلاً جديداً منها حين ننضم إليك، في جنتك التي فتشت عنها كثيراً...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق